الدراما التاريخي الأعلى كلفة بين كل أنواع الأعمال الدرامية

على الرغم من وجود بعض الأعمال الدرامية التاريخية ضمن الموسم الدرامي الرمضاني الحالي إلا أن العدد المتواضع منها والتي يتابعها مشاهدو المحطات والمنصات يشي بتراجع مكانتها بعد أن عاشت فترة ذهبية في التسعينيات من القرن الماضي والفترة التي تلتها ومازال عشاقها يعيشون على أمجاد أعمال تاريخية مهمة كان قد قدمها عراب الأعمال التاريخية المخرج الراحل حاتم علي مثل ” الزير سالم، ملوك الطوائف-ربيع قرطبة-صلاح الدين الأيوبي” وقد سبق للفنان الراحل نور الشريف أن اعترف بتفوق السوريين في الدراما التاريخية عندما قدم مسلسله “عمرو بن العاص” بإنتاج هزيل، في الوقت الذي كانت الدراما السورية تقدم “الثلاثية الأندلسية” و”صلاح الدين” و”الزير سالم” بإنتاجات ضخمة، وقال الشريف: “لا يمكن أن تقنع المشاهد بفتح مصر بثلاثة جياد”.

 

الدراما التاريخية وتحديات الواقع المعاصر

وعن أهمية الأعمال التاريخية يوضح الكاتب المصري د.محمد عمارة في كتابه “الدراما التاريخية وتحديات الواقع المعاصر” أن دور الدراما التاريخية أخطر وأفعل في استدعاء الوعي بسنن التاريخ والقوانين التي حكمت معاركه وصراعاته، وهي الأقدر على توظيف الدروس والعبر والعظات التي تستدعيها من صفحات التاريخ في خدمة قضايا ومشكلات وتحديات الواقع المعاصر، كما بيّنت المخرجة المصرية إنعام محمد علي في أحد تصريحاتها أن جهات الإنتاج التابعة للدولة هي المنوط بها تقديم الدراما التاريخية من كتابة السيناريو حتى الإنتاج، في حين أن الإنتاج الفردي هو المسيطر على الساحة الفنية الدرامية العربية وهو لا يفكر في تقديم المسلسلات التاريخية لأنها مكلفة، بالإضافة إلى أن بيع الأعمال العادية يحقق له مكاسب أعلى.

 

عدم التلاعب بحدث حقيقي وتاريخي

ويشير الكاتب السوري خلدون قتلان الذي كتب مسلسل “حرملك” إخراج تامر إسحاق في تصريحه لنا أن الدراما التلفزيونية محكومة بسوق عرض وطلب، ومع ظهور الثورة الرقمية ووصول الأعمال العالمية الضخمة إلى الجمهور العربي، وخاصة التاريخية منها سيبدو أي عمل تاريخي تقدمه درامانا مضحكاً إن لم توفَّر له كل الإمكانيات المطلوبة للظهور بمظهر محترم باعتبار أن العمل التاريخي مكلف جداً، موضحاً أنه في الأعمال التاريخية التاريخ هو البطل والشخوص هم أشخاص يدورون في فلكه فيتأثرون بكل أحداث المرحلة التي يتناولها العمل وتكون مهمة الكاتب خلق شخوص ونسج حكاية تدور أحداثها في التاريخ المطلوب، فينقلها للمتلقي بشكل يقنعه بأنه عاش تلك المرحلة، وتكون حدود الكاتب برأيه عدم التلاعب بحدث حقيقي وتاريخي موثق إلا إذا كان هناك خلاف تاريخي على حادثة ما، حينها يعرض وجهة نظره لما حدث ويجب أن يصرح بذلك.

 

التكلفة الباهضة للانتاجات التاريخية

ويبين محمود الجعفوري كاتب مسلسل “القعقاع بن عمرو التميمي” إخراج المثنى صبح أن قلة هذه الأعمال سببه أن معظم الأعمال التاريخية قبل الحرب بسنوات كانت تُنتَج بتمويل خارجي يختار الموضوع ويحدد ما يريد، وأن سبب اختيارهم للسوريين لإنجاز الأعمال التاريخية يعود إلى التجارب الناجحة والسمعة الجيدة التي حققتها أعمالهم، مشيراً إلى أن الحرب والظروف الاقتصادية التي يمر بها العالم غيّبت هذا التمويل الخارجي القادر على إنجاز مثل هذه الأعمال، فغابت الأعمال التاريخية لأن العمل التاريخي مكلف جداً ويحتاج إلى أن يُعرض على محطات كثيرة.

 

عدم توفر النص الموثق

ويرى الممثل رامز عطا الله الذي شارك في عدد من الأعمال التاريخية أن العمل التاريخي غالباً ما يكون باللغة العربية الفصحى التي تغري الممثل الشغوف بها لما لها من موسيقا عذبة في التعبير الدرامي للشخصية، مشيراً إلى أن أهم ما يجب أن يكون متوفراً لدى الممثل في هذه الأعمال هو فن الإلقاء والقدرة على التعبير الصادق عن الشخصية، كما يجب أن يكون متدرباً على ركوب الخيل والتعامل مع السيف والأسلحة التي كانت تستخدَم عبر العصور التاريخية، إضافة إلى اللياقة البدنية، مبيناً أن أسباب قلة الأعمال التاريخية تعود لعدم توفر النص الموثق بتاريخ شخصياته وأحداثه وببنائه وملابسه، وهو مكلف جداً ويحتاج إلى ميزانية كبيرة، لذلك يهرب المنتجون من إنتاج هذه الأعمال، وبالتالي فإن غياب التمويل هو سبب رئيسي لغيابها لأنها تعد الأعلى كلفة بين أنواع الأعمال الدرامية، وأن غياب التمويل سببه انقطاع التمويل الخارجي من جهة، وعجز الشركات المحلية عن خوض مغامرة الإنتاج التاريخي بسبب مشاكل التوزيع المعروفة، أما المخرج .

 

الأقدر على قيادة مثل هذه الأعمال فما عليه سوى البحث في المراجع التاريخية عن وثيقة تضم أحداثاً صحيحة.

 

اختبار حقيقي للموهبة

ويؤكد المخرج غزوان قهوجي أن الدراما السورية تميزت سابقاً بنتاجات الدراما التاريخية لتوفر نصوص توثيقية مميزة وإتقان الممثل السوري عموماً للّغة العربية الفصحى، بالإضافة لتنوع البيئة الجغرافية السورية وتوفر فنيين متميزين على مستوى الديكور والأزياء -قبل الحرب– متمنياً أن يتصدى مستقبلاً لإنجاز عمل تاريخي، شريطة أن لا يكون خاضعاً لتوجيهات سياسية أو مصلحية تدفع لتشويه الحقائق التاريخية، مبيناً أن هذه النوعية من الأعمال تعدّ اختباراً حقيقياً لموهبة المخرج وثقافته وقدرته على نقل الوثيقة بصرياً وفنياً، وهي بيئة صالحة للعمل مع الممثل.

 

تقديم التاريخ عبر الدراما لا يفقد قيمته

وكان الباحث التاريخي زهير ناجي الذي رحل قبل فترة قد قال لنا: “الدراما التاريخية عمل ايديولوجي يهدف إلى توضيح الحدث التاريخي أحياناً لتقريبه من الجمهور وشدّهم إليه، ويُستخدم أحياناً بهدف تعليمي” أما ماذا يستفيد علم التاريخ من الدراما فقد بيّن ناجي أنه يقرّب التاريخ من الناشئة ويحببهم به ويترك تأثيره الكبير على المشاهدين الذين لم يقرؤوه، فثقافة كثير من الناس تأتي اليوم من مشاهدتهم للدراما التاريخية، وفي هذا -برأيه أيضاً- بعض الخطر لأن الإنتاج في هذه الأعمال غالباً ما يكون من قِبل جهات مختلفة النوايا والاتجاهات، مع إشارته إلى أن تقديم التاريخ عبر الدراما لا يفقد قيمته، بل إن الدراما التاريخية تعطي التاريخ جمالية ليست في النص التاريخي، ولكن هذا مرهون ببراعة المخرج في تصوير الأحداث على صعيد الشكل بصرف النظر عن الايديولوجية التي يريد إيصالها للمُشاهد: “قيمة النص التاريخي تبقى موجودة في النص، والمخرج إن كان يحترم نفسه يحاول أن يكون موضوعياً دون أن ننسى أن الدراما التاريخية عمل إبداعي فنياً وفيه من الخيال الشيء الكثير، وهذا أمر مبرر”.

أمينة عباس- دمشق

 

 

 

 

 

تابعنا على Google news
شاهد أيضا

أضف تعليقك

هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie اوافق لمزيد من المعلومات، يرجى قراءة سياسة الخصوصية

سياسة الخصوصية