اللقاء الرابع: مع شيخ الاحتفالية الدكتور عبد الكريم برشيد

أعتز أنني عايشت تجربة عصر ذهبي، بالإبداع والتنظير والجدل والنقد، أعطى تجارب كبرى وحساسيات كبيرة، وإبداعات مختلفة، وأسماء لها وزنها قادت المرحلة ومازال الأثر والمنجز شاهدا، وضمن هؤلاء الكبار، الأستاذ عبد الكريم بر شيد، مؤلفا وصاحب نظرية في المسرح (المسرح الاحتفالي) تقاطعنا معها واعتبرناها ونعتبرها مدرستنا التي قربتنا من الأسئلة الداخلية للإبداع، مؤخرا تتبعت كتابات الرجل الاسترجاعية والتذكيرية وكأنها دروس دعم تقول لنا عودوا إلى مقاعدكم، ولا تهجروا الدرس المسرحي، وتعالوا نتحاور من جديد مع نظرية تنادي دائما بالمسرح المتجدد، الذي يعب في كل مرحلة ليولد الأسئلة والقلق المعرفي نحو بناء المعنى وتجديد الإيمان، هذه الدروس الاسترجاعية تتبعتها عبر الفيس بوك إذ يطل عيلنا د.عبد الكريم برشيد كل ثلاث أيام بورقة أتابعها شخصيا وحركت لدي السؤال الآن والهنا أيننا من جدل الأمس وإبداعه، هل طوينا الصفحة قبل أم نقرأها جيدا، هل دخلنا لمرحلة مع قطع ابستيمولوجي مع المراحل القبلية، سيما وأصبحت المرحلة الآن تنعث بما بعد الدراما، وما بعد المسرح، هنا وجدت لزاما أن نجلس أرضا ونستمع لشيخ الاحتفالية، يجدد لنا العلاقة مع الزاوية الاحتفالية، وبالمناسبة تواصلت مع الرجل وأخدت إدنه في هذا التواصل وأعلن لنا حبه وإدنه.
غربة المبدع الغريب في الزمن الغريب: عبد الكريم برشيد
وهذا الاحتفالي، في هذا الكون الاحتفالي، هو ( من يختار حياته، ومعها يختار حياة كل الناس الأحياء، إيمانا منه بان ( الحياة أحسن الاختيارات والموت أسوأ الضرورات) هكذا تحدث المهرج في احتفالية (شكوى المهرج الحكيم)
ولعل اشقى كل الأشقياء هو من تختاره الأيام والليالي، و تفرض عليه عليه درجة معينة في الحياة، وتفرض عليه نمطا من الوجود، من غير ان يكون له اي دور في صناعة حياته وفي تقرير مصيره،
ويرى هذا الاحتفالي أن أحسن وأجمل درجات التفكير هو ( ما كان تفكيرا من أجل الحق والحقيقة، وما كان بحثا عن الكرامة والفضيلة)
أما أسوأ درجات الغربة في الاحتفالية، فهي أن يجد الإنسان نفسه خارج ذاته، وخارج اسمه، وخارج أرضه، وخارج مجتمعه، وخارج وطنه، وخارج لغته، وخارج ثقافته وخارج أشيائه، وخارج مناخه، وخارج بيته، وأن يجد نفسه مقيما بشكل مؤقت في فندق، أو في سجن، او في صالة الترانزيت في المطار، أو في أرض لا حياة فيها ولا أحياء فيها، ولا اهل فيها، وأن يجد نفسه يقول مع بحر العلوم في المسرحية التي تحمل اسمه :
لقد اشتد بي الشوق والحنين، وأريد أن أعود إلى ارضي، وأية أرض هي أرضي؟ وأريد أن أطير إلى الأعلى، وأن أحلق في سمائي، وهذه السماء ليست سمائي، وهذا الزمان ليس زماني، وأنا .. لست أنا) وبعد الغربة والمنفى تأتي الرحلة إلى الوطن، وتكون العودة إلى الذات، هكذا كانت رحلة عوليس في الأوديسة اليونانية بحثا عن مدينته إيثاكا، وعن بيته، وعن زوجته بينلوب، وإلى بيته، وذلك لأنه (لا شيء أروع من أن نعود إلينا، بعد أن نشتاق إلى أنفسنا، وبعد أن يطول حبل الغياب، و تطول الغربة) نفس المرجع السابق
وفي المجتمع الكاذب، فإن ما يصنع الغربة دائما هو الصدق الصادق، ورحم الله أبا ذر الغفاري الذي قال (الصدق ما ترك لي صديقا) ولذلك فقد عاش بين اهله غريبا، ومات غريبا، وبالنسبة للكلمة الصادقة، يقول الاحتفالي (هي بالتأكيد معشوقة كل عاشق، ولقد أظهرت لي الأيام والليالي أن طريقها مفروش بالأشواك والأسلاك، وأنها قد تؤدي إلى الغربة في بعض الأحيان، وقد تؤدي إلى المنفى في كثير من الأحيان، وقد تؤدي إلى السجن والجنون أيضا، أو إلى الموت والانتحار، وقد تكون الغربة داخل الأوطان أقسى من الموت) هكذا تحدث الاحتفالي في كتابه (مرافعات الحكواتي الجديد)
وإذا كان الأصل في الغريب أن يبتعد جسديا (وان يغادر الناس والحجارة، وأن يفارق الأهل والأصحاب، فإنه في الأوطان الشاذة، وفي المراحل التاريخية الاستثنائية و الحمقاء، نجد المثقف الصادق يعيش الغربة و المنفى (في وطنه ) من نفس المرجع
ورغم محنة هذا الاحتفالي، ورغم غربته وغربة أفكاره الغريبة، فإنه لم يتوقف لحظة عن صناعة الفرح، وعن التبشير بالفرح، وعن اقتسام هذا الفرح مع كل الناس، إيمانا منه بأن الأصل هو الفرح، وان هذا الفرح يتمدد بالمشاركة والاقتسام، و.بأن الحزن عطب من أعطاب الوجود، ومن أعطاب الحياة ومن اعطاب التايخ، وأن من مهام الفنان الحكيم أن يقوم بإصلاحه، وإلا فما معنى وجوده في مسرح الوجود؟
الفرح في الاحتفال والاحتفال في الفرح
وكل شيء في نفس و وجدان وروح هذا الاحتفالي، يبدأ من الفرح، و(ينتهي) إلى الفرح، ولهذا يكون من حق المهرج المريض و( الحزين) في مسرحية (شكوى المهرج الحكيم):ان يقول لمن رآه في خلوته يبكي:
( إنني أبكي يا ولدي.. فرحا أبكي، ودموع الفرح اصدق كل الدموع، وأنبل كل الدموع، وأشرف كل الدموع) من مسرحية (شكوى المهرج الحكيم) منشورات ايديسوفت بمدينة الدار البيضاء
وهذا الاحتفالي الغريب يؤمن بالممكن الآتي، والذي ينبغي عليه أن يأتي، اليوم او غدا او في اي يوم من الأيام، وبالنسبة إليه أيضا، فإن ( كل شيء ممكن، ويوم يضيع الإيمان بالممكن لا يبقى أمامنا إلا المحال)
لقد أدرك الاحتفالي أن ثقافته تعاني الوحدة والغربة والمنفى، وأنها موجودة خارج بيتها وخارج وطنها وخارج أرضها وسمائها وفضائها ومناخها، وهذا ما يفسر أن يتمسك هذا الاحتفالي بالنحن، وبالآن، وبالهنا، وذلك حتى لا يعيش غربة في الزمان وغربة في المكان، وحتى لا يكون خارج نفسه، وخارج غلافه الثقافي والفكري والجمالي والأخلاقي
عندما يسأل الاحتفالي عن وطنه الحقيقي، فإننا نجد الجواب في قول الإسكافي لبحر العلوم، يقول له (وطنك الحقيقي نور على نور، وحيثما رأيت النور فامش إليه، وحيثما يكون الحق والعدل كن، وكيفما سار الجمال والكمال سر.. سر ولا تسأل من أين يأتي النور، من الشمال أم من الجنوب، من الشرق أم من الغرب.. اتبع منبع النور تصل إلى وطنك يا بحر العلوم) نفس مسرحية ( بحر العلوم)