الكتابة والقراءة، وتغيير الأولويات

في عالم يعج بالصخب الرقمي، حيث تختصر الحياة في مقاطع قصيرة، وتباع المشاعر بالضغط على زر “الإعجاب”، يجد جيل اليوم نفسه عالقًا بين واقعين/عالمين، عالم تذوب فيه الفواصل بين التسلية والمحتوى الجاد، ويستبدل اللحظات الهادئة بتغريدات وصور سريعة تفرغ الفكر من معناه، وعالم واقعي بواقعية الكتاب.
يعتبر البعض أن منصات التواصل الاجتماعي تؤسس لواقع ثقافي يتطور بسرعة، حيث لا يتوجه نحو العمق؛ بل نحو السطحية المفرطة؛ إذ يستهلك الشباب يوميا مقاطع سريعة تمحى باستمرار على منصات التواصل الاجتماعي، مقاطع مكتظة بالحركات المبتذلة، والضحك المصطنع، والتحديات التافهة. وبينما يستنزف الوقت في هذه الممارسات، يغيب العقل، ويصير الفكر مجرد ضيف غير مرحب به.
أشار المفكر الأمريكي نيل بوستمان، في كتابه الشهير “التسلية حتى الموت”، إلى خطر الإغراق في التوافه:
“الخطر لا يكمن في أن تمنع الكتب، بل في أن تصبح الثقافة غارقة في التوافه لدرجة أن لا أحد يعود مهتما بالقراءة أصلا”.وها نحن نشهد هذا الانزلاق اليوم، حيث لا أحد يعترض على الكتابة أو القراءة، بل غيرنا أولوياتنا، وأصبحنا مشغولين بما لا يستحق.


أضاف أدونيس، الشاعر والمفكر، في تصريحاته: “من لا يقرأ لا يكتب نفسه، بل يكتب من قبل الآخرين”.
في هذا القول، تكمن الحقيقة المرة. فاليوم، أصبح كثير من الناس ليسوا سوى نسخ لما يراه الآخرون، يتقلبون في بحر الصور والمقاطع، دون أن يعرفوا من هم، ولا إلى أين يتجهون.
بينما يتواصل هذا الضجيج، يبقى الكتاب صامتا في زاويته لا يلاحقك، ولا يفرض نفسه عليك. لكنه موجود، ينتظر من يتذوق سحره، و يمنحه اهتمامه، فالكتاب لا يعدك بشهرة سريعة، ولا بصوت يتردد في كل مكان، لكنه يمنحك ما هو أعمق: هوية حقيقية، ووعيًا ناضجًا، و رؤية واضحة للعالم.


 طه حسين، في سعيه لرفع شأن الثقافة، صرح: “القراءة وحدها هي التي تُخرج الإنسان من عزلته الطاحنة”.
فالقراءة ليست مجرد ترف فكري، بل هي، ركيزة أساسية لبناء الذات. إنها فرصة لتشكيل الوعي، واستعادة القوة الداخلية المفقودة في عالم تسيطر عليه الإعلانات والترندات.
نحن هنا لا نرفض التكنولوجيا ولا الترفيه، لكن لا بد من الاعتراف بأن اللحظة التي تضحك فيها الآن قد تكون هي نفسها اللحظة التي تفرغك غدًا. نحن في حاجة إلى التوازن بين التسلية والتفكير، بين الاستهلاك و الإبداع.
هذا ويبقى السؤال المطروح على جيل اليوم ليس مجرد سؤال ثقافي، بل هو سؤال وجودي مصيري:
هل نريد أن نكون جيلًا يُقرأ له، أم جيلًا يكتب عنه في صفحات الإعلانات؟
هل نرغب في أن تكون أصواتنا مستمدة من خلال الفكر؟
أم نكون صمتا صقيعيا في مقاطع تستهلك بلا معنى؟
القرار بأيدنا، إما أن نكون جيلًا يقرأ، يفكر ويبدع، أو أن نكون مجرد مستهلكين للأشياء التي تعرض علينا. الجواب ليس في الترند، بل فيك أنت، وفي اختياراتك.

محمد تابت

تابعنا على Google news
شاهد أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie اوافق لمزيد من المعلومات، يرجى قراءة سياسة الخصوصية

سياسة الخصوصية