الكتاب صوت الإنسان في زمن الضجيج

في عالم مليء بالصخب الرقمي والسرعة الضوئية للصورة، يظل الكتاب الورقي مساحة جد نادرة للسكينة و للتأمل الروحي و للحوار العميق مع الذات والآخر. إنه ليس مجرد صفحات تتوالى بل حياة أخرى، تقرأ و تعاش على مهل، لهذا، اختارت اليونسكو أن تجعل من 23 أبريل من كل سنة، بدء من سنة 1995، يوما عالميا للاحتفاء بهذا الكائن العتيق والحديث في آن، الكائن الذي رافق الإنسانية في كل منعطفات الوعي، وبقي صامدا قويا أمام كل الثورات التكنولوجية .
الكتاب ضرورة وليس ترف كما تؤكد اليونسكو لكون القراءة تعد من أقوى أدوات التمكين الفردي والجماعي، فهي تعزز قدرة الفرد على اتخاذ القرار، وتدعم التماسك الاجتماعي، وتوفر أساسا صلبا لبناء مجتمع مدني ديمقراطي حداثي.
لم يكن الكتاب أبدا ذلك الكائن الغريب عن الذاكرة الوطنية في المغرب، بل كان شريكا في صياغة الوعي والهوية عبر مخطوطات جامعة ومكتبة القرويين بفاس العتيقة، مرورا بالإرث التراثي لمكتبات سلا ومراكش وتطوان، وغيرها من المدن والمكتبات المغربية العتيقة؛ إذ عاش الكتاب في كنف الزوايا، والمدارس القرآنية، وفي ظل العلماء والمثقفين، مساهما في تشكيل خطاب مغربي متوازن، يمزج بين العقلانية الروحية والانفتاح الفلسفي، الأمر الذي يؤشر على النبوغ المغربي وفق ما رصده العالم المغرب سيدي عبد الله كنون، سنة 1938، في كتابه “النبوغ المغربي في الأدب العربي”.


تواجه الكتاب المغربي اليوم تحديات ليست بهينة، فحسب تقرير المرصد المغربي للثقافة لسنة 2022 ، فإن معدل القراءة خارج المنظومة المدرسية لا يتجاوز 7 دقائق يوميا للفرد، بينما تهيمن مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الترفيه السريعة على أغلب ساعات اليوم، هذه المعطيات تفرض علينا، كمجتمع، إعادة التفكير في علاقتنا مع الكتاب، ليس فقط بوصفه أداة للثقافة، بل كآلية لبناء الإنسان، وقد أفادت مؤسسة الملك آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بأن مجموع المنشورات المحصاة خلال سنتي 2023/2024 بلغ 3725 عنوانا من الكتب والمجلات، بمعدل إنتاج سنوي يناهز 1863 منشورا محققا زيادة بنسبة 6,98% مقارنة بالتقرير السابق، يضاف إلى هذه الأرقام، النسبة الضئيلة لعدد المطبوعات والنشر.
الرهان الحقيقي اليوم، لا يكمن في إنتاج الكتب فقط، بل في إنتاج قارئ جديد، قارئ لا يكتفي بالصفحات فقط، بل يحول ما يقرؤه إلى سؤال، وإلى موقف، وإلى قيمة. و قد بدأت تبرز في السنوات الأخيرة مبادرات مجتمعية واعدة، مثل “اقرأ كتابك”، و “مكتبة الشارع” ، و”القراءة الجماعية في الحدائق”، “وقراءة الشاطئ” ومسابقات عربية ووطنية للقراءة، وهي كلها مبادرات شبابية نابعة من القلب من اقتناع داخلي بأن الوعي لا يفرض، بل يغرس و ينمو.
يقول الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري في كتابه “تكوين العقل العربي” إن “القراءة هي الوسيلة الوحيدة لتكسير الاستسلام للواقع” . و هي مقولة تلخّص سر الكتاب: إنه ليس فقط نافذة على العالم، بل مطرقة لكسر القيود، وبوصلة للانعتاق من الجهل والسطحية.
وعليه فالاحتفال باليوم العالمي للكتاب ليس طقسا فولكلوريا، بل لحظة مراجعة حقيقية لسؤال كبير: فأي نوع من المجتمعات نريد ؟ وأي مواطن نريد؟ هل مجتمعات تستهلك وتنسى، أم مجتمعات تقرأ وتتذكر وتصنع التاريخ؟

محمد تابت

 

تابعنا على Google news
شاهد أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie اوافق لمزيد من المعلومات، يرجى قراءة سياسة الخصوصية

سياسة الخصوصية