هو الذي رأى كل شيء، هكذا تحدث الراوي عن غلغامش في ملحمته السومرية القديمة، نعم، هو الذي رأى كل شيء، لأنه بطل ملحمي عاش في الزمن الملحمي، أما أنا، ولأنني من الناس البسطاء وليس من زمن الأبطال ولا من أنصاف الآلهة، فما رأيت ـ في كل مسيرتي العمرية والابداعيةـ إلا بعض الأشياء القليلة جدا، ولهذا فقد اخترت أن أعطي هذا الكتاب عنوان ( أنا الذي رأيت).
بالنسبة لهذا الاحتفالي، والذي رأى شيئا وغابت عنه أشياء كثيرة، فإن كل شيء يبدا ( من عين سحرية، عين رأت ما رأت، ومن أذن مرهفة سمعت ما سمعت، ومن قلب كبير وعى ما وعى، ومن يد ساحر كتبت ما كتبت، ومن ذاكرة حية سجلت ما سجلت، وأيضا، من نفس إنسانية رقيقة وشفافة؛ نفس استغربت أمام كل غريب، واندهشت أمام كل مدهش، ولقد تساءلت أمام كل الناس وأمام كل الأشياء ، وكل شيء يبدأ أيضا من روح تفاعلت مع الأرواح الأخرى، و انفعلت أمام الأيام والليالي التي مضت، ولكن بعد أن حفرت في النفس مجرى عميقا، وبعد أن أصبحت وشما على جسد الحقيقة والتاريخ)
عين واحدة في عوالم متعددة لا تكفي: في البدء كانت الرؤية إذن، وكان الرائي، وكانت الكتابة، ومعهما كان الكاتب، ومع هذا الكاتب كان القارئ الشريك، وكان الصديق والرفيق في الطريق، وهل يمكن أن يكون للكتابة معنى بدون هذا الذي نسميه القارئ؟ والأصل في هذا الكاتب أنه عين ترى، وأنه قلب يحس، وأنه عقل يعي، وأنه أذن تسمع، وأنه مخيلة تتصور الصور، وتركب المشاهد والحالات، وأنه حدس يدرك الوقائع عن بعد بعيد جدا، أما إذا وقعت هذه الوقائع في الواقع، فإن الأمر يصبح من اختصاص الصحفي والإعلامي و الإخباري والمؤرخ وليس من مهام الكاتب المبدع، وأومن بأن هذا الواقع الاستثنائي اليوم، بكل تعقيداته وتشعباته الغامضة والملتبسة، هو أكبر وأخطر من أن تدركه عين واحدة، أو أن تحسه حاسة واحدة، أو أن يفسره علم واحد، أو أن يستوعبه فن واحد، أو أن يترجمه فكر واحد، ولهذا فقد قلت في كتابي ( أنا الذي رأيت) ( لقد رأيت، واقتنعت أيضا، بأن كل عيوني لا تكفي.. عيوني البرانية والجوانية معا، وعيوني الظاهرة والخفية أيضا.. هي كلها قاصرة أن تحيط علما بكل شيء، وأن ترى الصورة وما خلفها، وأن تعرف معنى أي شيء، وأن تدرك سر كل شيء، ولهذا فقد استعنت بعيون الآخرين من شيوخي ومن أساتذتي، ولقد استعرت منهم بعض ما رأيت، واقتبست شيئا مما علمت، وقرأت كثيرا مما كتبت ومما أبدعت، ولقد وجدت كل هذا في كتب الآخرين، وفي شعر الشعراء، وفي أسفار المسافرين، ولهذا أجد نفسي اليوم ملزما بأن أقول الحقيقة البسيطة والعميقة التالية، وهي أن كثيرا مما رأيت، لم يكن إلا تذكر او استظهار او تخيل او توقع او تنبؤ ..وبهذا فقد كان علي أن أكون معلما وتلميذا في نفس الوقت، وأن أكون العارف الذي لا يعرف إلا حقيقية واحدة، وهي أنه لا يعرف، وأنه ما أوتي من العلم الا قليلا، ولولا هذه الحقيقة ما كان ممكنا أن أواصل طلب العلم والمعرفة كل هذه السنوات الطويلة، ولو آمنت بأنني أعرف، ما بقيت كل هذه السنوات أواصل صوغ السؤال بعد السؤال و أواصل السفر في عقول العاقلين ولا أطلب الحكمة في حكمة الحكماء، وفي نفس هذا المعنى تقريبا يقول كارل بوبر (يبدأ العلم بمعرفة الأساطير ونقدها)
وهل من لا يعرف الظلام يمكن أن يبحث عن النور؟ وهل من لا يعرف الأسطورة و حدودها يمكن أن يؤسس فكرا أو يؤسس علما أو فنا؟ ومن لا يسكنه الجهل وتسكنه الأمية، هل يمكن أن يسعى إلى المعرفة؟
أما الحكيم الساخر برنارد شو فقد قال:(احذر من العلم الزائف فهو أخطر من الجهل) ولهذا فأنا الاحتفالي أقول دائما، بأن وجود ورقة بيضاء، يمكن أن تكتب عليها حقائق صغيرة وبسيطة أحسن آلاف المرات من أوراق كثيرة مكتوبة ومحشوة بالأفكار الخاطئة والزائفة والمضللة)
الاحتفالي المبتدئ في مدرسة الحياة الابتدائية يقول: الحكواتي الاحتفالي، بلغة الحكي السرية والسحرية ما يلي:
ما أجمل أن تكون إنسانا بين الناس، وأن تكون مواطنا كونيا كامل الإنسانية، وما اصدق أن تعيش مع الناس على الأرض، وأن تطير مع الطيور في السماء، وأن تدخل كل العوالم البعيدة بغير جواز وبغير تأشيرة، وألا يكون لك ومعك إلا ظلك وخيالك وأن تحلم من غير أن تغمض عينيك، وأن تسافر من غير أن تمطي جوادا ومن غير أن تركب عربة وأن تكون شفافا كالزجاج، وأن لا يحجبك عن الحق والحقيقة وعن الجمال حاجب وأن تكون رقيقا ودقيقا مثل شعرة وأن تكون واضحا كالشمس في الضحى وأن تكون سريعا مثل ومضة البرق وأن تكون بيتا تسكنه ويسكنك، وأن يكون هذا البيت بلا سقف وبلا جدران، وأن يكون كله نوافذ وكله شرفات معلقة في الفضاء وأن تكون كلها مفتوحة على الأرض وعلى السماء، وعلى كل الناس والأشياء، وهذه الكتابات الاحتفالية ليس لها حجم واحد مجرد و محدد، وهي تكبر في القراءات الكبيرة، و تصغر في القراءات الصغرى، وهي رائعة في النفوس والأرواح الرائعة، ولكنها ضيقة في النفوس وفي الأرواح الضيقة، وهي في القراءة الواحدة لا يمكن أن تعطيك إلا معنى واحدا، وكلما تعددت وتمددت و تنوعت فيها القراءات إلا وتعددت و تنوعت وتجددت فيها المعاني، وبهذا فقد كنت في هذه الاحتفالية تلميذا، وكنت المعلم الذي مازال يتعلم ..
أضف تعليقك