يعتبر المسرح أكثر الفنون التصاقا بالواقع، بل هو الأكثر واقعية من الواقع، إلى درجة أنه فوق الواقع، والسبب بعود للمسافة التي وضعها أو يضعها بينه وبين الواقع، فكلما كانت المسافة أبعد، كان الأقرب، لكون المسرح عاصمة الخيال والحلم والميتافيزيقا وواقعيته تكمن في إبداعيته التي يفرضها إلى درجة تجعل المتلقي يظن أن ما يقم أمامه واقع واقعي وما ينبغي له، معلم العلم أن الواقع يسهم في المسرح ويمثله بل يخلق حالة التماهي معه، اقتباسا، ومخاطبته، واستعارة لكنه ليس هو الواقع ولا علاقة له البتة بالواقع، وهنا سره الخفي والظاهر في نفس الآن؛ لذا فالمسرح عبر تاريخه هو قريب من الأسطورة ومن الحلم ومن العوالم المافوقية وقريب من الناس ومن جميع القضايا التي تحصل في المجتمع بصورة واضحة تكاد تكون واقعية، وهنا يبرز السؤال: كيف تتم لعبة المسرح بواقعية واقعه مع انحيازه للواقع الثقافي والفني والاجتماعي عموما؟
درسنا وقرأنا وحفظنا مسلمة وهي أن أصل مصطلح المسرح (Theater) يونانية مأخوذة من الكلمة (Theasthai)، أي المكان الذي يأتي إليه حضور لتلقي عرض مسرحي أو عمل فني ما، كما نتوافق في دروسنا التاريخية أن المسرح استحدث عند اليونان حوالي 500 قبل الميلاد في أثينا، كما تشير كل الوثائق المؤرخة لذلك أن العروض المسرحية اليونانية الأولى كانت طقوسا وعبادة وتقربا إلى الآلهة.
لذا بقي المسرح عند كل الأجيال المتعاقبة له قيمته الاعتبارية وأهميته الثقافية ودلالاته وسيميائياته الواقعية، وبه ومعه يحصل ما يلي:
التواصل الحي الذي يعاد يكون واقعيا، والمشاركة الوجدانية المكسرة جدارات التلقي، حسا وفعلا أو رمزا وخطابا.
حصول التلقي الحي، حيث تصبح المشاعر الموزعة بين الملقي الذي أعد تلقيه من نص حرفي وبصري وجمالي وأيحائي وتعبيري، مع متلقي غاية لهذا التفاعل بمرجعياته وتمثلاته..
حضور مسألة التطهير لأن من عادة المسرح أن يخاطب الذات والروح كما يخاطب المجتمع مستحضرا كل الأزمنة بشكل تعاقبي، ومستحضر كل ما له ارتباط بالواقع، وبعيد عنه في نفس الوقت.
المسرح في عمقه مجتمع، يوازي المجتمع، وقل هو مجتمع بصيغة الجمع ويشجع على إحداث التغيرات الإيجابية في المجتمع، وهو في نفس الوقت ظاهرة ثقافية مستقلة تنتقد وتوجه المجتمع.
تعود أول مسرحية في التاريخ إلى القرن السادس قبل الميلاد في اليونان والتي حدثت بشكلٍ عفويّ ثم أخذ بعدها المهتمّون بتطوير الفكرة وتعزيزها لتصبح المسرحيّات من أهم الأحداث التي تُقام سنويًّا في البلاد. تتطلّب إقامة المسرحية توفّر عدّة عناصر هي: خشبة المسرح، المؤثرات الصوتية، الإضاءة، الخلفية، الأزياء وبالطبع الكاتب، المخرج والممثلين.
وضمنه تأتي الاتجاهات والتوجهات المسرحية والحساسيات الإبداعية، الممثلة للعصور والحضارات والتحولات التي عرفها العالم ووفق السفر التاريخي لهذا الفن.
المسرح مكان وتواجد وحفل وفرجة ولقاء وتلاقي وترافع، المسرح موضوع ورسالة وكلمة وخطاب، المسرح واقع يخاطب الواقع من عدة جوانب. المسرح من أهم أشكال الفن عبر التاريخ، الذي كان له دور مهم في مساعدتنا على فهم الثقافة والمجتمع من حولنا بل وفهم الحياة، حيث يستخدم الكتاب المسرحيون المسرح للتعبير عن آرائهم حول مواضيع حياتية ثقافية أو سياسية أو اجتماعية وتوعية الناس في حواراتهم حول موضوع معين.
لعب المسرح على مر الزمن دورًا هامًا في المجتمعات في جميع أنحاء العالم، حيث ساعد المجتمعات على تطوير ذاتها وعلاقتها بالكون والوجود، لعب المسرح دورًا هامًا في التأثير على الفكر، كما كان له دورا هاما في تذكر وترسيخ تاريخ بعض المجتمعات بدء من اليونان القديمة حيث المسرح للمرة الأولى مرورا بكل الأزمنة والأمكنة والحضارات حيث انتقل المسرح وتشكل وأثر وتأثر إلى أن وصلنا الآن والهنا، بهذا الشكل ومازال يحمل إكسير حياته ويتكور ويتحول باستمرار.
فبعد أن ظهر المسرح في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد خلال احتفالهم بديونيسوس إله الخصوبة والنبيذ، والذي كانوا يحتفلون بطريقة غريبة، فتراهم يرقصون ويتمايلون بشكلٍ هستيريٍّ، تم تطوير المسرحيات إلى أن ظهر كاهنٌ يدعى (تيسبيس) أضاف عنصر الحوار للمسرحية، فأصبح الممثل الأول على خشبة المسرح، ومن ثم تطوّرت هذه الظاهرة الفنية وأصبحت المسرحية في ذاك الإبان من أساسات الاحتفال بالإله ديونيسوس السنوي وبعض الآلهة أيضًا، ولعل هذه المرجعيات المسافرة في الزمن من الولادة والمنشأ والتأصيل هي التي رافقت وترافق هذا المسرح..
أحمد طنيش
أضف تعليقك