ثقافة

العودة مرة أخرى إلى مقاهي دمشق، كتراث ومتحف ثقافي وحضاري

aue.tanich 4 مايو 2025 - 11:28

وأنا أجلس إلى نفسي، في إحدى مقاهي مدينة مراكش، تساءلت كيف هو تاريخ المقاهي، هذا المكان الذي عوض البيت وأصبح متنفس له بل تحول إلى منزلة بين المنزلتين، فهو ليس بالبيت وليس بالمكتب وليس بالإدارة، وأهم عنصر يمتاز به أنه يستقبل الناس ومكان مفتوح للقاء، ويجمع بين عدة الطبقات، بل أن المقهى له تاريخ مرتبط بالديبلوماسية وغيرها، وعن تاريخ المقاهي في المغرب ربما تكون مذكرات القنصل الأمريكي إدموند هولت في المغرب سنة 1909، والذي سوف نعود إليه في هذا الملف، واحدة من أقدم الشهادات التاريخية التي تعرضت لوصف المقاهي المغربية على الإطلاق، ولأن المناسبة شرط، شدتني الأخبار  في قنوات أجنبية عن سورية تحديدا ظهر لي  عبر  صور سريعة أحداث دمشق وظهرت لي من بعيد مشاهد لمقاهي فارغة من ناسها من روحها ومن عبيقها، فتذكرت تاريخ مقاهي دمشق وقلت لينطلق ملف اليوم عن المقاهي تاريخا وثقافة من دمشق، بحكم السبق التاريخي، وباعتبارها تراث ومتحف ثقافي وحضاري..

خلقت مقاهي دمشق أنماطاً اجتماعية جديدة في العلاقات، واحتوت أسلوبية مغايرة في الحياة والتلاقي، خارج إطار المنزل والأماكن الدينية وباقي الأماكن الخاص والعام، فضلاً عما يتم ضمنها من نقاشات وسجالات فكرية جعلت من المقهى منتدى اجتماعياً وثقافياً وحتى سياسياً مُصغَّراً..
مقهى النوفرة هو أقدم المقاهي الشعبية في دمشق، إذ يعود تاريخه لما يقارب المئتين وخمسين عاماً، وليس من الغريب أن يلاحظ المارة بالقرب من الجامع الأموي كيف يضجّ هذا المقهى بمرتاديه حتى ما بعد منتصف الليل، وفي أيام معينة قد يجدون “الحكواتي” جالساً في صدر المقهى، يروي حكاياته التي يقرؤها من دفتر قديم بأوراق صفراء، على الجالسين في أرجاء المكان، وللإشارة سبق انتشار المقاهي الشعبية في دمشق مثيلاتها في أوروبا بأكثر من مئة عام، وذلك في النصف الأول من القرن السادس عشر.
كتب قتيبة الشهابي في “دمشق… تاريخ وصور” أن الحكواتي في النوفرة “كان لأكثر من قرنين يروي قصة بطولاتنا الغابرة، وهذا المقهى هو الوحيد الذي حافظ على هذا الطقس الثقافي بعدما هجرته معظم المقاهي في ستينيات القرن المنصرم، واستبدلت الحكواتي بالتلفاز، ويبقى في ذاكرة الدمشقيين العديد من مشاهير الحكواتية.
ذكر مهند مبيضين في كتابه “ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة”، الحكواتي عبد الحميد الهواري (1885-1956) الشهير بأبي “شاكر المنعش”، والذي خلفه بالحرفة أبو شاكر صنوبر ثم أبو حاتم إبراهيم، المعروفون ببراعتهم وسرعة بديهتهم وأسلوبهم في الإلقاء والتعبير، قبل ذلك كان الناس يتوافدون لحضور عروض خيال الظل، أو بحسب التسمية الشائعة “كراكوز وعيواظ”، فضلاً عن الأغاني الطربية، التي تُعدِّل المزاج مع كأس الشاي الخمير، أو نفس العجمي “المدلَّل”، كما يصفه مدير المقهى.
يقع المقهى عند تقاطع الباب الشرقي لجامع بني أمية وحي القيمرية، الذي عُرِف في السابق باسم ‘الهند الصغيرة’ لما يتمتع به من فعاليات اقتصادية واسعة. ومُقابل المقهى هناك حمّام النوفرة المعروف بحمام ‘الذهبيّة’، منه استم اسم مقهى ‘الفوَّارة’.


وهنا مقهى أخرى اسمه “خبّيني” لا يخبِّئ أحداً، لا نبتعد كثيراً عن مقهى النوفرة، نصعد بضعة درجات، ونتجه جنوباً أمتاراً قليلة حتى نصل إلى بوابة مقهى “خبّيني” عند نهاية سوق القباقبية، صاحب المقهى محمد كمال وتار، الذي ورثه عن أبيه، ذكره هذا المقهى عند ابن كنَّان في كتابه “يوميات شامية في تاريخ أحد عشر وألف ومية”، أصل التسمية تعود إلى القرن الثامن عشر، فكما يخبرنا قتيبة الشهابي في كتابه “معالم دمشق التاريخية” أنه “في زمن الاتحاديين الأتراك، عندما كانوا يبحثون عن الشبان لسوقهم إلى الخدمة العسكرية إبان الحرب العالمية الأولى المعروفة بحرب “السفر برلك”، كان ضابط مفرزة السوق “الشاويش” يعتمر قبعة طويلة من اللباد، فكان يسمى “أبو لبادة”، وكان اسمه يقترن بالخوف والهلع لدى الشبان، إذ كان الذهاب إلى معارف بعيدة يعني الموت، وشاع عن هذه القهوة بأنها سميت بذلك لأن الشبان الهاربين كانوا يلجؤون إليها طالبين الملاذ قائلين لمن بها: خبّيني”.
من المقاهي التاريخية، مقهى الروضة الذي يتوسط شارع العابد، على مقربة من مبنى البرلمان، أحد آخر الأمكنة الشعبية وسط المدينة، وما زال يستقطب رواده من مختلف الشرائح منذ تأسيسه عام 1938 على أنقاض سينما صيفية، وبمساحة شاسعة تصل إلى 750 متراً مربعاً، وتضم 600 كرسي خيزران وعدداً كبيراً من الطاولات الرخامية، استطاع أن يكون برلماناً موازياً، تُناقَشُ فيه القضايا كلها، من الاحتلالات الكبرى وحتى سعر جرزة البقدونس.
وعلى تفاوت مستوى الخدمة بين الجيدة والسيئة، إلا أنه بقي محافظاً على نسبة كبيرة من رواده، ومنهم الروائي خليل صويلح صاحب “وراق الحب” و”عزلة الحلزون”، ويشار أن هذا المكان استقطب بين الفينة والأخرى أدونيس، كما عبرته منذ الخمسينيات عشرات الشخصيات المشهورة، منها صدّام حسين الهارب إلى سوريا بعد محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، ومظفّر النواب الهارب من صدّام حسين، إلى سعدي يوسف، وجواد الأسدي، وجبر علوان، ولبيد رشيد، حتى أصبحت المقهى بمثابة سفارة عراقية في المنفى.
وفي مقهى الروضة يجتمع أيضاً الممثلون والمخرجون السوريون حول طاولة زهر، وإلى جانبهم يتوافد الممثلون الشباب الباحثون عن فرصة ظهور تلفزيونية أو سينمائية، وهناك الصحفيون والصحفيات ومراسلو الإذاعات والفضائيات، وكتّاب السيناريو الأصلاء والطارئون، والفنانون التشكيليون، وأيضاً هناك روائيون وكتَّاب القصة القصيرة جداً إلى جانب شعراء الهايكو، ووزراء سابقون ومدراء عامّون أحيلوا على التقاعد.
ومن الجيل الشاب تجد الكثيرين ممن يلعبون الشدّة، أو يبحلقون في شاشات البلازما لمتابعة مباريات كرة القدم وسباق السيارات، وهناك عشّاق حقيقيون، وآخرون عاطلون عن العمل وعن الحب معاً، وهناك من يبحثون فقط عن تزجية الوقت مع نفس أرجيلة يرافق كأس شاي أو فنجان قهوة أو كوب ميلو أو حتى “سلاش” بارد.


نعبرإلى مقهى الهافانا الذي تأسس عام 1945، ويقع على الجهة اليمنى لشارع بور سعيد الممتد بين ساحة يوسف العظمة ومحطة الحجاز، وتعود شهرته، بحسب مديره أبو الخير، لجذبه عدداً كبيراً من المثقفين على مر تاريخه، ممّا جعله مكاناً لالتقاء الأدباء والمفكرين والشعراء، ليس السوريين وحسب بل العرب أيضاً، من رواده الشاعر محمد الماغوط، ومؤسس حزب البعث زكي الأرسوزي، والأديب إسماعيل عامود والكاتب الساخر شريف الراس، وأيضاً بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأحمد الصافي النجفي، والشاعر القروي، ومحمد مهدي الجواهري ومظفر النواب وأحمد عبد المعطي حجازي. ومن الفنانين الذين ارتادوه محمود المليجي وفريد شوقي والمطرب محمد عبد المطلب وغيرهم الكثير. كما احتضن هذا المقهى المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي الاشتراكي سنة 1947، وكان حينها يعتبر حزباً معارضاً لجماعة أكرم حوراني الذين يرتادون مقهى البرازيل المقابل للهافانا، يقال أنه منذ أواسط الثمانينيات بدأ نجم الهافانا بالأفول، وكانت الحادثة الكبرى حينها والتي كادت تقضي عليه وتلغي وجوده من خارطة المقاهي الدمشقية، عندما اشتراه أحد تجار البناء بغية تحويله إلى محلات لبيع الألبسة والعطور. لكن أحد المثقفين كان له بالمرصاد، إذ طالب بعدم التفريط بهذا الصرح الثقافي، وبسبب من أهمية المقهى التاريخية والمعنوية والثقافية، استملكته وزارة السياحة، وتعاقدت مع شركة الشام للفنادق والسياحة، لتجديده واستثماره مع المحافظة عليه كمقهى ثقافي له تاريخه وشهرته.
عن تراث المقاهي الدمشقية.

15 مايو 2025 - 13:46

المهرجان الوطني لجائزة محمد الجم لمسرح الشباب، التجربة الرائدة لمسرح مستقبلي

12 مايو 2025 - 18:29

جمعية إقلاع تخلد الذكرى الفضية لمهرجان بني عمار بلقاء مفتوح مع الدكتور حسن بلغازي

12 مايو 2025 - 13:04

التراند ميلاد اقتصادي وتطور تواصلي رصدي إعلامي

12 مايو 2025 - 08:16

المهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة في دورته ال 25 يحتفي بالذكرى التأسيس 48

أضف تعليقك