عرفت مصر المقاهي في القرن التاسع عشر، أثناء فترة الحكم العثماني، وقد أحصى العالم المؤرخ علي باشا مبارك في خططه ما يقرب من 1027 قهوة في القاهرة عام 1880، من بينها 232 قهوة في قسم الأزبكية، و160 في بولاق وعابدين.
يذكر إدوارد وليم لين، الذي عاش في القاهرة في بدايات القرن ال 19،في كتاب “المصريون المحدثون” (أن القاهرة بها أكثر من ألف مقهى، والمقهى غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود، ويقوم على طول الواجهة، ما عدا المدخل، مصطبة من الحجر أو الآجر تفرش بالحصر ويبلغ ارتفاعها قدمين أو ثلاثة وعرضها كذلك تقريبًا).
المقاهي أو “القهاوي” – كما يطلق عليها بالعامية المصرية – هي أماكن شرب القهوة، أطلق عليها في اللغة اللاتينية كلمة “كافيه” لتدل على المكان الذي تشرب فيه المشروبات، مثل الزنجبيل والقرفة والينسون، فيما كان الشاي – في القرن التاسع عشر- لا يقدم إلا في منازل رجال الطبقة العليا في المجتمع، والذين كانوا يتفننون في اختيار أنواعه، التي يستوردونها من إنجلترا.
اختلف دور المقهى في مصر بمرور مئات السنين على ظهورها لأول مرة وانتشارها في ربوع المدن شرقا وغربا كظاهرة اجتماعية لافتة تنامت وانتشرت بشكل دراماتيكي لدرجة يصعب معها حصر أعدادها بعد توغلها في كل مكان، بداية من الشوارع المعروفة داخل المدن الكبرى في مصر، وأبرزها العاصمة القاهرة، وانتهاء بالأزقة والحواري الصغيرة التي تنتشر على جنباتها، حيث تجاوزت الدور الذي لعبته منذ ظهورها كمكان تجمع به الأدباء والمثقفون والشعراء والذين حظي بعضهم بشهرة واسعة نتيجة أعمالهم الخالدة، ومن بينهم الكاتب الكبير الراحل نجيب محفوظ، صاحب جائزة نوبل في الأدب، والتي سميت إحداها باسمه، إلى وظيفة أكثر شمولا، حيث أصبحت ملجأً لشرائح واسعة من المجتمع بصرف النظر عن تشابه دورهم مع روادها القدامى، وكانت ولا تزال مكانا للعمل، وتجمع الأصدقاء، والسمر، والطرب، والراحة من عناء عمل هنا أو هناك لتناول كوب من الشاي الساخن، أو القهوة، وتزداد وتيرة هذا التجمع الشعبي في المقهى خلال شهر رمضان الكريم حيث تكون مسرحا يكتظ بالناس من كل حدب وصوب عقب صلاة القيام إلى وقت السحور وحتي موعد صلاة الفجر وخاصة في القاهرة التاريخية القديمة وفي حي الحسين والجمالية، ومنطقة خان الخليلي حيث مقهى الفيشاوي الشهير.
وأخذت ظاهرة المقاهي منحى التطور العصري ليضاف إلى بعضها كلمة العصر «الإنترنت» لتواكب التطور التكنولوجي من خلال شبكات الواي فاي اللاسلكية للدخول إلى كل أنحاء العالم من خلال الشبكة العنكبوتية
وارتبط الجلوس على المقهى بتدخين النرجيلة أو ما يسمى «الشيشة»، وهي بلا شك من العادات الضارة التي يعشقها الكثيرون رغم خطورتها على الصحة والتحذير من أضرارها، ولكنها أصبحت أحد الموارد المهمة لظاهرة «المقهي» والتي تدفع نسبة كبيرة إلى العمل في هذه المهنة نظرا لما تدره من دخل على صاحبها.
واشتهرت خلال القرن الماضي في مصر كثير من المقاهي، وأبرزها مقهى «الفيشاوي» التي لم تعد بتلك المساحة الكبيرة التي ظهرت عليها منذ نشأتها قبل أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان، عندما أقامها الحاج فهمي الفيشاوي في منطقة الحسين التاريخية في وسط القاهرة ودعمها بعدد من مقتنيات القصور الملكية كإهداء من الأسرة المالكة في هذا الوقت، وكان من روادها كما يتردد نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر، والإمبراطورة الفرنسية أوجيني، والملك فاروق، ورؤساء مصر عبد الناصر وأنور السادات، وكذلك صفوة المجتمع والأسر الحاكمة في مصر قبلهم، بالإضافة إلى الفنانين والأدباء والمفكرين، ولم تقتصر المقاهي التاريخية الشهيرة في القاهرة على الفيشاوي فقط، ولكن ظهر مقهى «ريش» في شارع سليمان باشا في قلب القاهرة التي كانت مملوكة لمواطن قبرصي وتم بيعها لشخص فرنسي جعلها على غرار كافيه «ريش» تجمع المثقفين في باريس، وكانت ريش ملتقى للأدباء والمثقفين أيضا وما زالت، وكانت تعقد ندوات ثقافية وأدبية داخل المقهى لكبار الكتاب المصريين وأشهرهم نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، وصلاح جاهين، وجمال الغيطاني، وأمل دنقل، واشتهرت أيضا في هذه الفترة مقهى «متاتيا» في ميدان العتبة، المملوكة لأحد اليونانيين الذي عاش في القاهرة وتمت تسميتها بهذا الاسم نسبة إلى أحد المهندسين الإيطاليين الذي صمم المنطقة الموجودة فيها، وكان يجلس عليها جمال الدين الأفغاني، وبعض رموز الأمة المصرية، ومنهم الزعيم سعد زغلول، والشيخ محمد عبده، وكانت ملتقى عدد من الشعراء والمفكرين الكبار، منهم محمود سامي البارودي، وعبد الله النديم، وحافظ إبراهيم، وسميت كذلك بمقهى «البوستة»، وشهد هذا المقهى اجتماعات ثورة 1919. وبيانات الثورة ومنشوراتها.
هناك مقهى أخرى لها صيتها اسمها أم كلثوم توجد في أحد الشوارع المتفرعة من شارع رمسيس في وسط القاهرة من الأماكن التي اشتهرت منذ عصر سيدة الغناء العربي، وما زال يحتوي على صورها مع أقطاب جيلها من الفنانين ويعرض أغانيها لرواده.
من بين المقاهي التي اندثرت حاليا ولم يعد لها وجود مقهى «الريتز» بشارع قصر النيل الذي كان مكانه في عمارة الإيموبيليا الشهيرة في وسط القاهرة، وكان يجتمع فيه عدد من مشاهير الفن والأدب، ومنهم توفيق الحكيم، ومحمد التابعي، وإبراهيم ناجي، وعباس العقاد، وعبد القادر المازني، وبالقرب منها يوجد مقهى «اللواء» التي أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى جريدة «اللواء» التي كان يصدرها مصطفى كامل باشا، وكانت مكان جلوس المثقفين والأدباء والسياسيين، ومنهم الشاعر كامل الشناوي، والدكتور زكي مبارك، والشيخ عبد العزيز جاويش، واشتهر كذلك مقهى «عرابي» الذي كان يعقد به الكاتب نجيب محفوظ لقاءاته، وسميت باسمه، وكان يوجد فيه رفقة «الحرافيش» ومن بينهم يوسف جوهر، وأحمد مظهر، وعلي أحمد باكثير، ومحمد عفيفي، وغيرهم من المثقفين والفنانين.
من أشهر المقاهي في مصر في القرن الماضي مقهى «محمد عبد الله» في الجيزة، التي كانت ملتقى للأدباء والمثقفين، ومن بينهم سمير سرحان، ويوسف إدريس، ورجاء النقاش، وصلاح عبد الصبور، ومحمود السعدني، وكان يجلس عليها الرئيس الراحل أنور السادات، وشهد هذا المقهى مناقشة كثير من الأعمال الأدبية والثقافية لكتاب مصريين وعرب أيضا.
يوجد أيضا عدد كبير من المقاهي الشهيرة في القاهرة ومنها «دار الكتب» في المنطقة التي تحمل نفس الاسم، ومقهى «الكومبارس» في ميدان الأوبرا، والتي يتجمع عليها صغار الفنانين ممن يؤدون الأدوار الصغيرة في الأفلام والمسلسلات، ومقهى الدراويش خلف مسجد الحسين، ويتجمع فيها عدد من منشدي الذكر والمداحين بالإضافة إلى كثير من المقاهي التي يتجمع بها المهنيون من أصحاب الحرف اليدوية.
يتذكر نجيب محفوظ حياته مع المقاهي فيقول: “بخلاف قهوة قشتمر وعرابي والفيشاوي، التي كنت أرتادها لملاقاة الأصدقاء، كانت هناك القهاوي التي كنت أذهب إليها لألتقي بالكتاب والمثقفين، وكان أول منتدى أدبي لي هو كازينو الأوبرا، ثم بعد ذلك جاءت قهوة ريش، ثم علي بابا، وأخيرا كازينو قصر النيل، الذي ظللت أذهب إليه، إلى أن وقعت لي الحادثة “يقصد الاعتداء الإرهابي عليه”، فمنعوني عن الذهاب إليه”.
إعداد: أحمد طنيش
أضف تعليقك