بعيدًا عن ضجيج المدن وتسرّع الحياة، يجد ملايين البشر ملاذهم في أماكن تنبض بهدوء الطبيعة وسحر التنسيق وبلاغة الجمال إنها الحدائق، تلك المساحات الخضراء التي تتجاوز حدود الجمال، لتغدو تعبيرًا عن فلسفة الشعوب، ومرآة لهويتها وثقافتها. ورغم اختلاف اللغات والمناخات، تبقى الحدائق لغة كونية يتحدثها الجميع بنفس الدهشة والانبهار.
تشير بيانات صادرة عن منظمة الحدائق العالمية إلى أن عدد زوار الحدائق الكبرى في العالم تجاوز 800 مليون زائر في السنة الماضية، مما يضع هذه المساحات الخضراء ضمن أبرز الوجهات السياحية والثقافية على مستوى العالم. ويبدو أن الناس باتوا يبحثون عمّا هو أبعد من الصور، عن لمسة سلام وعن استعادة علاقة قديمة مع الأرض.
في لندن، تقف “حدائق كيو” الملكية، المصنفة ضمن التراث العالمي لليونسكو، شاهدة على تزاوج العلم بالجمال، حيث تضم آلاف الأنواع النادرة من النباتات، وتشكل مختبرًا حيًا للباحثين في علم النبات منذ القرن الثامن عشر. أما في فرنسا، فلا تزال “حدائق فيرساي” تروي قصص الملوك، وتبهر الزوار بتناسقها الهندسي الذي يعكس روح البذخ الملكي في عهد لويس الرابع عشر.
في الضفة الأخرى من العالم، تزدهر حدائق “كينروكو-إن” اليابانية في مدينة كانازاوا، بتفاصيلها الدقيقة وممراتها الصامتة، وكأنها معبد طبيعي للتأمل. بينما ترسم “حدائق دبي المعجزة” لوحة لونية استثنائية في قلب الصحراء، حيث تتحدى أكثر من خمسين مليون زهرة القيود المناخية، لتثبت أن الإرادة قد تزرع الجمال في أقسى الظروف.
ليست الحدائق مجرد فسحٍ للترفيه، بل هي جزء من الذاكرة الجماعية للمدن. فيها يلتقي الناس، يلعب الأطفال، ويتأمل الشيوخ. وربما لهذا السبب تحديدًا، ما زالت الحدائق تحظى بمكانة خاصة في قلوب الناس. إنها ليست فقط مكانًا للنزهة، بل مساحة للتنفس والهدوء، ودرس دائم في التناغم. وسط عالم يتسارع نحو الإسمنت، والزحف العمراني، تظل الحديقة قصيدة خضراء تذكّرنا بما هو أبسط وأجمل وأكثر عمقا.
هدى بن الغالية
أضف تعليقك