في قلب اليابان الحديثة التي تعجّ بسرعة التكنولوجيا وإيقاع العيش السريع، تمتد حديقة أوينو، كأنها تنتمي إلى عالمٍ موازن لعالم السرعة الذي يعيشه اليابانيون. حديقةٌ يبدو فيها الزمن متوقفًا، حيث يبرُز جمال الثقافة الماضية، وتصبح مكانًا للتأمل في الجمال الزائل الذي طمسته العولمة والتطور السريع. كما جاء في مشهد الساكورا: ما الذي يجعل لحظة تفتّح الزهرة تستحق الاحتفاء؟ ولماذا تتحوّل أوينو كل ربيع إلى مسرح مفتوح للتأمل في الزمن؟.
ذلك لأن حديقة أوينو ليست مجرد مساحة خضراء، بل رمزٌ لثقافة البلد، تستقطب كل سنة آلاف الزوار من مختلف أنحاء العالم. ترجع أهمية حديقة أوينو إلى سبب تأسيسها سنة 1873، بعد انهيار النظام الإقطاعي، حيث كانت أول حديقة عامة في اليابان، عقب انفتاح البلاد على الغرب في عصر “الميجي”. وهي في الأصل أراضٍ تابعة لمعبد “كانئي-جي”، وهو معبد بوذي تضرّر جزئيًا خلال حرب “البوشين”، وهي حرب أهلية عرفتها اليابان ما بين سنتي 1868 و1869. هذا الماضي العريق أعطاها قيمة تاريخية ما تزال حاضرة إلى اليوم،لكن الحديقة ليست فقط فضاءً هادئًا أخضر للراحة والنزهة، بل هي أيضًا تعبير عن الروح اليابانية التي ترى في الطبيعة حكمة صامتة. ففي فصل الربيع، حين تتفتّح أشجار الساكورا (الكرز)، تخضع المنطقة لطقوس ومهرجانات شعبية، تعكس الهوية اليابانية، وتستحضر الجانب الفلسفي الذي يرى أن كل شيء، مهما كان جميلاً، فهو زائل.وهنا يظهر البعد الثقافي الخاص بالحديقة، من خلال تقليد “الهانامي”، وهو عادة ترمز إلى التأمل العميق في الجمال، عبر الجلوس تحت الأشجار ومراقبة طريقة تفتح الزهور. هذا التقليد يرتبط بمفهوم ياباني أصيل يُعرف بـ “مونو نو أواي” (Mono no Aware)، أي الإحساس بجمال اللحظات العابرة والتأمل في فناء الأشياء.
فحديقة أوينو ليست فقط معلمًا طبيعيًا، بل حديقة عالمية تجمع بين التاريخ والثقافة، وهي فضاء للتأمل والتوازن. ففي داخلها نجد معابد، متحف طوكيو الوطني، متحف الفن الغربي، وحديقة للحيوانات، مما يجعل المكان يجسد توازنًا عميقًا بين المقدّس والعلمي، بين الجمال البري والثقافة الرفيعة، وبين الطبيعة والإنسان.
ورغم تسارع الزمن، ما تزال حديقة أوينو إلى اليوم ملاذًا روحيًا وثقافيًا، وأشبه بذاكرة حية لطوكيو، تحتفظ بهدوئها وسط ضجيج المدينة. “ربما لا تدوم زهرة الساكورا أكثر من أيام، لكنها تترك فينا أثرًا يتجاوز الفصول… تمامًا كما تفعل اللحظات الثمينة في الحياة.”
فاطمة الزهراء سهلاوي
أضف تعليقك