حين يتجول الإنسان في حديقةٍ ما، قد يظن أن ما يراه من تنسيق نباتي وزهور ملونة ليس سوى مسألة جمالية، لكن في الواقع أن الحدائق، ومنذ القدم، كانت أكثر من مجرد فضاء للراحة أو الترفيه. إنها انعكاسٌ عميق للهوية الثقافية، تحكي قصة الشعوب التي أنشأتها، وتكشف عن نظرتها للعالم والطبيعة والحياة.
في اليابان مثلاً، لا يمكن النظر إلى حديقة تقليدية دون أن ندرك التناسق الدقيق فيها بين الماء والحجر والنباتات، حيث لا شيء فيها زائد عن الحاجة. هذه البساطة المتناهية ليست عشوائية، بل تعبر عن فلسفة “الزن” التي تقدّس التأمل والصمت والتوازن. في المقابل، قد نجد الحدائق الفرنسية الكلاسيكية، خاصة في عهد لويس الرابع عشر، وقد بُنيت على أساس الهندسة الصارمة والتماثل المفرط، مما يعكس عقلية السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لترتيب بشري، وكأنها امتداد لنفوذ الدولة المركزية.
أما في بلداننا العربية، فلطالما لعبت الحديقة دورًا رمزيًا عميقًا. فالحدائق الإسلامية، كما في الأندلس أو في مراكش وفاس، لا تقتصر على جمال الشكل، بل تستند إلى مفهوم الجنة كحديقة أبدية، يتوسطها الماء وتحيط بها الأشجار المثمرة والزهور. ليست الحديقة هنا مجرد مساحة خضراء، بل رمز روحاني يعبّر عن السلام الداخلي والتناغم مع الخالق. حتى توزيع النباتات ومسارات المياه يعكس تصورًا كونيًا، تُجسّد فيه الأرضُ صورة مصغرة عن الجنة الموعودة.
ومن خلال تتبع الحدائق في ثقافات مختلفة، نكتشف أن كل أمةٍ صاغت حديقتها وفقًا لخيالها الجماعي وقيمها الأساسية. فالشعوب التي تؤمن بالاندماج مع الطبيعة، مثل بعض القبائل الأصلية في أمريكا الجنوبية، تترك الحدائق تنمو بحرية نسبية، لتجسّد علاقة احترام للطبيعة بدلاً من السيطرة عليها. في حين أن الحضارات التي كانت ترى في النظام والهيمنة مفاتيح القوة، سعت إلى تنظيم الحدائق بما يعكس هذه القيم.
الحديقة ليست مجرد نباتات مزروعة بعناية، بل نص ثقافي مفتوح، نقرأ من خلاله بلاغة الجمال. إنها الفضاء الذي يلتقي فيه الجمال بالفكر، وتعبّر فيه المجتمعات عن تصورها للمكان، والزمن، وحتى للحياة والموت. لذلك، حين ندخل حديقة ما، لا ندخل فقط إلى عالم من الزهور والظلال، بل ندخل إلى وجدان حضارة بكاملها، ماثلة في جذور الأشجار، وفي انحناءات الممرات، وفي صمت الزوايا.
دعاء سميح
أضف تعليقك