ملحمة مغرب جديد..

ما بين ” نية ” وليد الرݣراݣي، و ابتسامة “ياسين بونو”، و رقصة “أشرف حكيمي”، و صرخة “حكيم زياش”، و صدمة “لويس انريكي غارسيا” تمت صياغة ملحمة كروية وقف لها كل العرب وقفة إجلال و احترام و كرامة لم نتذوق طعمها منذ عقود كثيرة…

أكيد أن جميعنا على علم بمدى شغف الجمهور المغربي بلعبة الكرة المستديرة. و من زار المغرب يعلم جيدا أن ميادين الكرة تخترق كل مدنه و بقاعه و حتى قراه النائية ….في المغرب يأخذ الحلم الكروي أشكال عدة، بدءا بحذاء قد يلاعبه طفل صغير، أو كومة صوف تتراقص بين أرجل صغيرة، أو كرة حقيقية تم شراءها بمساهمات مالية من طرف أبناء الحي، أو أخرى عالمية ظلت عاجزة عن هزم الهزيمة و نصرة الإرادة المغربية الحقيقية….

و إذا كان تكون الجنين من نطفة الى علقة الى مضغة يتطلب تسع أشهر كاملة فقد تطلب تشكيل المنتخب الوطني المغربي بقيادة المدرب وليد الرݣراݣي أقل من شهرين. صحيح أن الإنتماء للمنتخب كان قائما، إلا أن التشكيلة التي حققت الإنتصار كانت مشتتة العناصر و الأهداف.

في البداية، بدا لنا المايسترو وليد الرݣراݣي مجرد شاب عُرف بروح الدعابة و قد كان إصراره على الفوز مضحكا و ممزوجا بمفاهيم تحيي التراث المغربي العربي الأصيل.

لقد كان كل حديثه حول النية، و رضا الوالدين،و حب الفريق الأمر الذي كان يبدو غير منطقيا بالمرة. إلا أنه و بعد تتالي الإنتصارات ترسخت نظريته البسيطة في الأذهان، و صرنا نحن كمغاربة نحب أن نتمعن في نظرات عيونه البراقة و قسمات وجهه التي تخفي العديد من الأسرار. إنه حقا ساحر ظهر في آخر دقيقة ليقلب موازين قارة بأكملها و يلقنها درسا في الحب و البساطة.

 

و على ذكر الحب فقد كان هو المكون السحري الذي تمت إضافته بسخاء و دون معيار دقيق إلى الطبخة الكروية المغربية و قد تجلى واضحا في النظرات و التمريرات و التسديدات بل و حتى في التدريبات…

 

و بالرجوع إلى ابتسامة بونو الحارس المغوار الذي تصدى بنية و حرفية و حب لكل محاولات الأشبال الإسبان، و أبى إلا أن يحافظ على شباك نظيفة طيلة مشوار الأسود في المونديال باستثناء نيران خفيفة صديقة مرت مرور الكرام لأنه ما بين الخيريين و المحبين حساب….فقد لاحظ الكل أنه كان والإبتسامة رفقاء في وجه واحد، طغت عليه ملامح عربية قحة و أعين سوداء ترمق تموقع الكرة قبل رميها و طول فارع يذكرك بأبطال الأمس و إنجازاتهم التاريخية التي كاد اليأس أن يمحوها من أذهان العرب.

 

لقد تمسك بونو بٱبتسامته في أكثر لحظات المباراة حرجا صحيح أنه كان يزأر بين الحين و الآخر دفاعا عن أخطاء هددت مرماه، و يتباطئ أحيانا أخرى في إبعاد الكرات التي لم تشكل تهديدا حقيقيا على شباكه، و يتقوقع على المستديرة حتى نخالها منه ضاعت ثم يعود ليكشف عن وجهه بابتسامة طفولية بريئة.

 

لقد قدم حارس عرين الأسود درسا في الثقة و ضبط النفس و مواجهة الإرتباك….لقد قام بدور الطبيب النفسي لنفسه و لرفاقهو للأمة جمعاء لأنه عرف كيف يمتص غضبهم و يزرع في أفئدتهم ثقة لم يعتادوها و هم في قلب المعركة.

 

لقد كان المنتخب المغربي حكيما في مبارياته جلها، متأنيا في القرارات الكبيرة و الصغيرة كيف لا و هو الذي يتمتع بوجود ظهير أيمن شكل عقدة حقيقية لكل نظراءه.

إنه أشرف حكيمي، الشاب المغربي الذي لم يخجل من الكشف عن ماضيه الصعب و تدحرج والديه تحت عتبة الفقر لسنين طويلة إلى أن ظهر شغف نجلهم بالكرة و صار نجما يتلألأ في سماء كبريات الأندية الإسبانية ثم الفرنسية ليعود في الأخير لمنتخب بلده و يحقق أرقاما قياسية جديدة و يقصي الفريق الذي استدعاه لنصرة علم لا يمثله و هوية لا تزعزع كيانه بتاتا. و أكيد أننا لن ننسى تصريحاته العفوية و لا رقصته البطريقة بعد هدف الخلاص خلال الضربات الترجيحية ضد الإسبان.

 

أما الحديث عن “حبة المشماش” أي حكيم زياش فلا أدري من أين أبدأه…هل من ماضيه الصعب الذي كاد أن يحطم مواهبه على صخرة اليأس و الإدمان! أو من علاقاته المتوترة مع مدربين عاقبوه تارة بالإقصاء و تارة أخرى باتهامه بسوء السلوك و التصرف أمام الملأ.

 

و قد لا يعرف الكثيرون أنه قد قام سابقا بتقديم اعتزاله للمنتخب المغربي قبل ان يعود ليلبي نداء الوطن بواسطة المايسترو وليد الرݣراݣي الذي ٱحتضنه و آمن بمواهبه و منحه فرصة الحضور في كل مباريات المونديال…..

 

فوراء هذه الملامح الأمازيغية الهادئة و هذا الوجه الذي صنف ضمن أجمل 100 وجه في العالم غضب مستشيط و طاقة لا تحتمل التأجيل فهو يجسد ذاك الأسد الجائع الغاضب الذي لا يكتفي بانتظار الفريسة بل يذهب للبحث عنها في دهاليز الغابات المظلمة ثم يعود ممسكا بها بين أسنانه بنظرة تجعلك تكاد لا تفرق بين الوحش و غنيمته…إنها نهاية صبر طال و انتهى بفرج فاق التوقعات و أعاد لهذا الشاب توازنه و ضحكته التي كسرت حدود خرائط العرب.

 

و بالعودة إلى مدرب المنتخب الإسباني الذي عاد منتشيا بانتصاره الباهر ضد كوستاريكا، موقنا بأنه سيذيق خصمه المغربي الأمرين دون الحاجة لروح قتالية او لطاقة باهرة…فقد رأيناه البارحة يفقد تركيزه بطريقة واضحة و يقول لنا من خلال أعينه : من أنتم و ماذا تفعلون؟ انتم مغاربة و كفى! انتم رفقاء اليأس و أخلاء الهزيمة! أنتم آخر حلم للعرب سنحطمه الليلة بكل أناقة و يسر.

 

إلا أنه مع تقدم عمر المباراة تسلل اليأس إلى قلبه و هُزمت أمنياته و توقعاته كما تُهزم القطط أمام الذئاب. و قد رأيناه خلال آخر مرحلة من المباراة جالسا ، تعلو محياه حمرة تترجم عدم تقبله لهزيمة لم يضعها في سجل توقعاته.

 

و في الأخير وجب القول أن العالم تغير بتغير معايير الساحرة المستديرة التي صارت تستقطب الجنس اللطيف و تُخلي الشوارع و تعطي دروسا في فن التعامل و إدارة المؤسسات و تعيد ترتيب أوراق السياسة مع الأصدقاء و الأعداء،و مع المنكوبين و الأشقاء و حتى الجيران.

 

لقد علَّمنا وليد بأن مفهوم النية ليس بقديم متجاوز و أن للطاقة الإيجابية أسرار تتجاوز حدود العقل و أن لحضور الأحباب و الأمهات دور كبير في تغيير مجرى تاريخ الكرة المغربية…

 

فكفانا إذن من طأطأة الرؤوس، و شكوى النفوس، و تعداد المآسي و لعب دور الضحية….كفانا قولا أننا في جب الفقر قابعون و في عقر الظلام جالسون و للفرحة غير مستحقون….

 

فنحن من صنع فرحة الشعوب…نحن من اخترع أمس إحساسا جديدا قلب موازين الهرمونات في أجسادنا التي وصلت حد الغليان لدرجة جعلتنا نتوسل إلى الله أن يهدينا على الأقل آخر انتصار….

 

لكن طعم الإنتصار حلو ثقيل لا يقبل سوى إعادة نفسه…لذلك سننتظر انتصارات آخرى و سندرِّس تَكتيك مدربنا المغربي في المدارس و المعاهد…سنعلم أطفالنا حروفا هجائية جديدة بطعم الحب لا بالعصا الكلاسيكية لأنه بالحب و التآلف و الضحكات نتعلم و لا نثلعتم….نربح و لا نرضى سوى بالربح…

 

ربح يُنتزع بمشقة ليوحد الشعوب و يجعل من الليل نهارا و من أيامنا العادية أعيادا و من أفئدتنا الصغيرة نبراسا يعزف لحن العز و يلخص مفهوم الوجود البشري المغربي العربي الإفريقي…

 

 

بقلم /فردوس حروفيشي

تابعنا على Google news
شاهد أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ما 5 تيفي نود أن نعرض لك إشعارات بأهم الأخبار والتحديثات!
Dismiss
Allow Notifications